24‏/05‏/2014

محاكمة الحبّ ( 2 )


( هنا الجزء الأول للجلسة )

- القاضي : من أنت ؟
- أنا الفضيلة !
- وقف الشّيخ بعزم منهك : سلامٌ عليكِ أيّتها الفضيلة , إنّه لشرفٌ أن ألتقي بك ... لكن معذرةَ ! هل سمعتك تقولين أنّك ستشهدين للحبّ ؟
- الفضيلة : نعم .
- عمّ القاعة صمتٌ مستغرِب , و وجوه تلتفت لبعضها كأنّها تريد التّأكد ممّا سمعت ... قطع الصّمت صوت القاضي ;

- القاضي : لا بأس , تفضّلي .
- الفضيلة : حين نرى الشّر قد استفحل يا سيّدي فمن الغباء أن نلوم الخير على غيابه  أو نحاكمه وسيكون الصّواب أن نلوم أنفسنا على غياب الخير بتركه أو الابتعاد عنه  ...و تلقائيّا ,هل ستكون هجرتنا إلّا إلى الشّر حين نهجر الخير ؟  هل سيكون إلّا الشّر حين يغادر الخير ؟ و هل الشرّ إلّا ما عملت أيدينا حين عملت على إبعاد الخير فلم تمسّك عليه باستحقاقه ؟
- دمعت عين الحبّ لِما سمع و دمعت عين الشّيخ .
- واصلت الفضيلة : سيّدي , للحبّ في القلب مكان شاغر حُجز للحبّ فلا ينزل فيه باستحقاق غيره , فإن نزل الحبّ بهذا المكان و وجد الخير استقرّ و أثمر خيرا كطبيعته و إلّا هجره لعدم تناسب الطّبيعتين فالحبّ يحتاج لطبيعة الخير في التّعبير عنه عملا طيّبا أو صبرا طيّبا , فإن هو وجد أنّ هذه الطّبيعة التي تحتويه و تمثّله قد هجرت قلبا عرف أنّ عليه الهجرة منه أيضا إلى حيث هاجرت و أنّه قلبٌ لا يستحقّ الحبّ بفقده لوسطه الملائم ...
- الشّيخ : و يبقى القلب بمكان شاغر ؟
- الفضيلة : ولِمَ قد يبقى فارغا و في الدّم شياطين تحوم حوله في كلّ دورة دمويّة فكأنّما يهمس الشّيطان لصاحبه : ( مكان شاغر , مكان شاغر ) فيردّ عليه : ( وقلب به شرّ , قلب به شرّ )  فيضرب أحدهما بيده على يد الآخر : (  مكان مناسب , مكان مناسب )
- القاضي : ما الخير و الشّر هنا في القلب و ما علاقتهما بالجريمة  ؟
- الفضيلة : كما أسلفت سيّدي , الخير هنا عملان للحبّ أولّهما ترجمته قولا و عملا لمن استطاع إليه سبيلا في إطار يرضي الله تعالى يحقّق به وجودي في هذا المجتمع فيكون بأفراده فاضلا , و ثانيهما صبرٌ عليه لمن لم يستطع  فيبقى الحبّ في مكانه بالقلب لا يبرحه  يحقّق الفضيلة بصيامه عن القول و عن العمل .
- و ما الشرّ إلا غياب العملين في القلب , فلا ترجمة شرعيّة للحبّ و لا صبر ... حينها كلّ الدّلائل ستشهد أنّ النازل بالقلب شيطان و نفثة , توافقان طبيعة القلب الشّرير تريد كلتاهما أن تهوي بابن آدم في النّار و تريد كلتاهما تحقيق وعد ( لأغوينّهم ) .
- و حتّى القلب الذي به خير قد لا يسلم من إرادة الشيطان النزولَ بمكان الحبّ فيه لكن الفرق بينه وبين القلب الذي به شرّ هو أنّ الأول يستشعر النفثات الشيطانية لأنّ طبيعتها تختلف عن طبيعته فيحاربها بقوّة الخير إلى أن يطردها ليبقى المكان دائما شاغرا ينتظر الحبّ الحقيقيّ لينزل فيه بسلام , فإن استعصت النفثات و تمسّكت بمكان الحبّ جورا و زورا حاصرها الخير بالصّبر فشلّ أعضاءه فلا تطيع أبدا هذه النفثة  , لا قولا و لا عملا ... إلى أن تملّ النفثة الكاذبة فتهاجر متذمّرة تدّعي كذبا : أوووه ! قلبٌ معقّد !
- أمّا القلب الآخر فهو لن يستشعر أصلا طبيعة النفثات الشيطانيّة فهي لا تختلف عن طبيعته , و ستوهمه بأنّها حبٌّ و سيصدّق بأنّها حبّ و سيرحّب بها  قولا و عملا باسم الحبّ .
- القاضي : أريد كلاما مباشرا , من المسؤول عن هذه الجرائم ؟
- الفضيلة : الشيطان ... حين يعمل مستحلّا الحرام باسم الحبّ و هو استحلال باسم الشرّ , و يخون باسم الحبّ و يخطيء باسم الحبّ ...و هل فعلٌ لشيطان نازل بالقلب إلّا شرّ ؟ سيّدي إنّنا أمام قضيّة ذنبُ الحبّ فيها أنّه انتُحِلَتْ شخصيّته و استُعير اسمه .
- القاضي : أعطيت دلائل جرم الشيطان و لكن هذا لا يعني براءة الحبّ فقد نكون أمام جريمة بمجرمين هما الشّيطان و الحب ّ .
- الفضيلة : فكأنّك تقول بمجرمين هما الخير و الشرّ !
- القاضي : وما الدليل على أن الحبّ خير ؟
- الفضيلة : ألم يعمل الحبّ في قلب المؤمن فيجعله يشري روحه ابتغاء وجه الله فتجده يخرج مستصغرا الدنيا مستكبرا الآخرة ؟ ألم يعمل الحبّ في قلب الأمّ فيجعلها تتقن التّضحيّة ؟ ألم يعمل الحبّ في قلب ذي المال فيجعله ينفق منه و يتقن العطاء ؟ ألم يعمل الحبّ في تعليم النّاس كل معنى للخير ؟ أم يا تراها التضحيّة و الزهد و العطاء ليست بخير ؟
- القاضي : فلماذا لا يعمل الحبّ بالخير ذاته إن كان بين مرأة و رجل ؟
- الفضيلة : و من أخبر أن الحبّ الحقيقي يعمل بين مرأة و رجل أصلا  يا سيّدي ؟ الحب قد يوجد بين مرأة و رجل لكنّه يصبر أمّا حين يريد العمل فإنّنا أمام عمله بين زوجين لا جنسين , أما تَرى أنّ الإسلام قد دعا للجهر بالزواج فكأنّما هو دعوة للجهر بأنّ الحبّ قد سلك طريقه الصّحيح قولا و عملا و أنّه سيعمل في إطار شرعيّ ليس للمحاكم حقّ النظر فيه , فهو منذ الآن شرعيّ و جهريّ فلا يُحاسَب أبدا .
- القاضي : إذن فسنحاسب الحبّ على جريمة ترك مكانه شاغرا للشّيطان .
- الفضيلة :  فلتحاسب الشّيطان على نزوله مكانا غير مكانه أوّلا .
- القاضي : إذن جريمة بمجرمين .
- الفضيلة : بل بمجرم و بريء لم يُجرم إلّا في أعينكم ,  الحبّ يا سيّدي لا يخون أبدا و لا يجرم أبدا و لا يُؤلِم البريء كهذا الرّضيع أبدا .
- القاضي : لكنّه يؤلم صاحبه ...
- الفضيلة : إلّا بقدر ألم الصّبر فقط ... والصّبر من خصائص القلب الخيّر ... فإن كنتم محاسبين الحبَّ على ألم الصّبر فأدخلوا الخير خلف تلك القضبان و حاسبوه بقوانينكم و اتّهموه بجريمة الصّبر ثمّ اسجنوني و اتّهموني بجريمة الوفاء ثمّ اسجنوا الصّبر و حاكموه على جريمة الألم .
- اهتزّالشّيخ بدمعة و صرخة : كلّا , كلّا , كلّا .
- و هدأت المحكمة ... فكأنّما أذعنت لقول ( كلّا ) أو كأنّها أرادت أن تقول هي أيضا ( كلّا ) .
- القاضي في هدوء : اختمي أيّتها الفضيلة .
- الفضيلة : الحبّ الحقيقيّ , يصبر لتحقيق الفضيلة فإن رأيتم جرمه في الألم الذي يسبّبه الصّبر فلتغفروه له بالفضيلة التي يسبّبها هذا الصّبر ... الحبّ يا سيّدي يصبر لكيلا يغضب الله تعالى الذي يملك مأواه بالقلب , الحبّ يصبر حتّى لا يؤذي من يحبّ في الدّنيا و حتّى لا يعذّبه في الآخرة , الحبّ يصبر عسى أن يحيا مع من يحبّ في شرع الله تعالى ثمّ يحيا معه أزليّا في نعيم الجنّة ...... الحبّ يصبر فلا يتحدّث متخبّئا وراء إسدال الليل كالمجرين , و يصبر كي لا يُنجب الأبرياء , و يصبر كي لا يُجرم .
- تناقش القاضي و مساعديه من جديد , طرق طرقة ثمّ قال : حكمت المحكمة حضوريّا ببراءة المتّهم الحبّ على أن يُطلق سراحه بكفالة الفضيلة .
- تبسّم الشّيخ ... و ابتسمت دمعة الحبّ .


هناك 4 تعليقات:

  1. و صفق قلبي قبل يديّ لما كتبت يا اخيتي......ما اعجبني و اثلج صدري:الحبّ يصبر عسى أن يحيا مع من يحبّ في شرع الله تعالى ثمّ يحيا معه أزليّا في نعيم الجنّة

    ردحذف
  2. - تحيّة لقلبك أخيّة !
    - تلك العبارة هي ملخص التدوينة ( رحتِ للنقطة الأساسية مباشرة , نستعرف بيك )
    - شكرا على وجودك هنا .

    ردحذف
  3. وآن للعالم كلّه أن يصرخ كلـآّ ! أليس كذلك ؟؟ :)
    بارك الله فيك أختاه ... فلسفتكـِ أعجبتني وأتعبتني :p
    مزيداً من التألق والتميز ^^

    ردحذف
  4. بارك الله فيك إلهام , أكرمك الله .

    ردحذف